السلام عليكم ورحمة الله وبراكاته
التعليم الإنساني هو الذي يعنَى بترقية جوهر الإنسان الذي يميزه عن الحيوان (العقل). وترقيته هي تنشيطه، وتنمية طاقاته، وتدريبه على الاستكشاف والإدراك والاستيعاب، ويتعذر هذا إذا كان التعليم مجرد نقل معلومات جاهزة تحقن له، ثم يظل العقل ساكناً هامداً، كما كان قبل حقنها. وهذا التعليم له من الضرر مثل ما له من النفع؛ لأنه يعلي قدر الذاكرة على العقل، وهو غير إنساني لهذا السبب، ولسبب آخر: أنه لا يقيم اعتباراً حقيقياً للإنسان في ذاته، وأنه حين يقدم له المعلومات الجاهزة إنما يدربه على الإنتاج، أي يدربه ليخدم المجتمع على حساب إنسانيته هو، كما قال رئيس البوسنة والهرسك «علي عزت بيجوفيتش»: «إن تقليص الإنسان إلى مجرد وظيفة إنتاجية استهلاكية.. ليس علامة على الإنسانية، وإنما هو سلب لإنسانيته.. وبالمثل، يمكن أن يكون التعليم لا إنسانياً إذا كان عملية من جانب واحد، موجهاً وقائماً على تلقين تعاليم حزبية، إذا لم يكن يعلم الفرد كيف يفكر بطريقة استقلالية، إذا كان يقدم إجابات جاهزة، إذا كان يعدُّ الناس فقط للوظائف المختلفة، بدلاً من توسيع آفاقهم، وبالتالي حريتهم. إن أي تلاعب بالناس، حتى ولو كان في مصلحتهم هو أمر لا إنساني، أن تفكر بالنيابة عنهم، وأن تحررهم من مسؤولياتهم والتزاماتهم هو أيضاً لا إنساني».
تعليمنا لا إنساني!!
وبناءً على هذا فالتعليم في العالم الإسلامي غير إنساني؛ لأنه لا يعلم الإنسان كيف يفكر تفكيراً مستقلاً، ولا ينمي طاقات عقله، وإنما يقدم له معلومات من معارف شتى، لا يستفيد منها في حياته الشخصية، ولا يتأثر بها عقله ولا وجدانه.
وقد أشار الرئيس في موضع آخر من كتابه إلى أن هذه سمة عامة في التعليم في العالم كله. ويبدو أن ذلك صحيح؛ فالعالم -اليوم- إنما يهمه الإنتاج، والإنسان فيه أشبه شيء بالرقم، وكلما زاد إنتاجه ارتفعت خانته.
أسس صحيحة للتعليم
ولقد كان ينبغي أن يكون التعليم الإسلامي بخلاف هذا؛ ذلك بأن الإسلام قد أعلى شأن العقل والفكر أي إعلاء، فحث القرآن الكريم على التدبر والتعقل والتفكر والسير في الأرض لاستكشاف سنن الله فيها، وضَرَب الأمثلة الحسية للمعنويات التي ربما يتعذر استيعابها على العقل لو قدمت إليه مجردة. وهو إذا عجز عن إدراكها وآمن بمصدرها اضطر لا محالة إلى التسليم بها من غير إدراك لحقيقتها، ولا تفاعل معها التفاعل الذي يريده القرآن الكريم.
والمعرفة التي يتغياها القرآن الكريم هي تلك القائمة على برهان يورث اليقين الذي لا يخالجه الشك، ولا سيما فيما يتعلق منها بالعقائد،)فاعلم أنه لا إله إلا الله).
وقد بنى بعض علماء الكلام على ذلك أن النظر العقلي أول واجب على المكلف؛ حتى يعرف الله معرفة يقينية مبنية على الأدلة القطعية التي لا يبقى معها شك، ولم يقبلوا الإيمان التقليدي، أي الإيمان الموروث عن الآباء من غير نظر عقلي مستقل.
وكانت طريقة رسول الله «صلى الله عليه وسلم» في التعليم طريقة إنسانية، بالمعنى الذي ذكرنا آنفاً: تعلي قدر.. العقل، وتعلم منهج التفكير. ودليل ذلك أنك لا تجد في حديثه قواعد نظرية صارمة، إنما هو أحكام متنوعة على قضايا شتى. لكن متدبرها يستطيع أن يستخلص منها قواعد كلية ثابتة.
وهذا المنهج قوَّى جانب التفكير عند الصحابة ومن تلاهم من علماء الإسلام، فكانوا يدرسون لغة النص، وسياقه، ومناسبته، ويقارنونه بالنصوص النبوية الأخرى، وبالقرآن الكريم، ثم يستخلصون الحكم. وبذلك مزجوا مزجاً رائعاً بين الوحي والشرع، ولم يكونوا مجرد حفظة نصوص، فسطروا في الفقه أسفاراً عظيمة تمتلئ بالفكر الأصيل، والنظر الثاقب، لا نظير لها في تراث البشر.
ولقد مرَّ على الجامعات والمعاهد العربية زمان وهي تخرج من الطلاب أفواجاً لا تنظر في منحهم الشهادات إلى أهليتهم لحمل رسالة حضارية من عدمها؛ كأنها لا تعي ما يمكن أن يبنوا، إن كانوا أهلاً، وما يمكن أن يحطموا، إن كانوا غير أهل لها، وكأنما هي مصنع لإنتاج الموظفين. فكانت الدراسة فيها - من أجل ذلك - شكلية جداً، لا تتجاوز معلومات يدونها المدرسون في مذكرات، أو يحيلون الطلاب عليها في الكتب، بعد أن يسردوها أمامهم من غير تحليل ولا مناقشة.
واليوم..كمّ لا كيف!!
وبقصور الطالب الفكري، وتأثره بمجتمعه الذي لا يدرك جوهر الإنسانية، وقيمة الحياة الحقيقية وأهمية العلم، وتهمه المصلحة المادية، وتدفعه دوافع موضوعية إلى تحصيل الشهادة - بسبب ذلك كله يصيبه ما يشبه الكَلَب على الشهادة؛ فيختزل غاياته العاجلة في الحياة في تحصيلها؛ فيسدل على عقله وتفكيره ستاراً، ويقيم بينه وبين الاستفادة مما يدرس جداراً، ويستنجد بذاكرته، ويتحامل عليها أشد التحامل؛ حتى تخزن له المعلومات المقررة قبل يوم الامتحان بساعات، ويشجعه على هذا شكلية المعلمين، ويأس بعضهم من إمكان التغيير والإصلاح، وما ينتج عنه من التسليم للواقع والانقياد للشكلية وحزبها.
هذا كله يرجع إلى التوسع الكمي في المؤسسات التعليمية الذي يتطلب كثرة من الخريجين تملؤها، كيفما كان مستواها.
وقد طبعت الأجيال التي تعلمت على هذا المنوال صورة التعليم كلها بطابع الشكلية والخواء وانعدام الغاية، وغياب الجانب الفكري والعقلي. وانعكست حالة التعليم على الحياة، فصار أكثر هذه الأجيال عناصر حيادية، لا تأثير إيجابياً لها في الحياة. وأنت إذا حاورت واحداً منها، صغيراً أو كبيراً لم تجد في ثيابه إلا شخصاً لا يميزه شيء عن المرء العامي الذي لم تتجاوز قدمه عتبة مؤسسة تعليمية.
وحلُّ هذه المشكلة بِيد المعلمين في مستويات التعليم كلها، ولكن المعلمين عندنا في حاجة إلى إعادة تأهيل كيفي. وقد أصبحت هذه الإعادة أمراً ملحاً جداً. لكن صعوبات جمة تكتنفها، منها قلة الذين يستطيعون أن يتولوها. فهؤلاء ينبغي أن يجمعوا إلى العلم المستوى الفكري العالي الذي يمكنهم من بناء عقل المدرس بناءً جديداً، ويربيه تربية إنسانية تؤهله للتربية.
بيد أن قلتهم لا ينبغي أن تَفُت في العضد، أو تثني عن التفكير الجاد في هذا الموضوع.
فما دام المنشود البناء الكيفي، فإعادة تأهيل خمسين مدرساً كل عام، في قطر من الأقطار العربية، إنجاز عظيم، وهو على كل حال خير من الحيرة والتوقف الذي يجر التعليم إلى أن يكون عبثاً محضاً، تنفق فيه الأموال الكثيرة، ويضيع من أجله الوقت الطويل، وترهق فيه الأبدان والأذهان، ثم لا ينتج إلا إنساناً ناقص الإنسانية، لا يصلح للحياة.